Friday, June 15, 2012

حملة المقاطعة، وبهلوانات التواطؤ


http://www.aljabha.org/index.asp?i=68821

رجا زعاترة
الجمعة 15/6/2012

*لا أحد يتوقع منا أن نكفّ عن التعلّم في الجامعات الإسرائيلية أو أن نقاطع "البمبا" والتأمين الوطني، ولكننا يجب أن نتوقع من أنفسنا ألا نكون دمًى في مسرح الدعاية الإسرائيلي*


تُعتبر حملة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS) شكلاً هامًا من أشكال المقاومة المدنية والشعبية ضد الاحتلال الإسرائيلي، يحظى بإجماع كبير في أوساط الشعب الفلسطيني في مختلف أنحاء تواجده (هنا وفي الأراضي المحتلة عام 1967 وفي مخيمات اللجوء وفي الشتات العربي والدولي) وعلى تعدّد مشاربه الفكرية والسياسية (من "الجهاد" و"حماس" إلى "الشعب" و"الشعبية"). كما تعتبر الحملة شكلاً رئيسيًا من أشكال التضامن الدولي مع قضية شعبنا العادلة والضغط على الحكومات الإسرائيلية، مثلما رأينا مؤخرًا في قرارات تمييز و/أو مقاطعة منتجات المستوطنات الإسرائيلية في عدة دول كجنوب أفريقيا والدانمرك والنرويج وسويسرا وبريطانيا وغيرها، وفي امتناع المسؤولين الإسرائيليين المتورّطين في جرائم الحرب عن زيارة دول مثل بريطانيا واسبانيا وهولندا وبلجيكا والنرويج خشية اعتقالهم، حيث تتيح قوانين تلك الدول استصدار أوامر اعتقال بحق مواطنين أجانب يشتبه بارتكابهم جرائم حرب.

ولا تطرح الحملة مقترحًا للحل السياسي للقضية الفلسطينية - إذ ينشط فيها مؤيدو "حل الدولة الواحدة" ومؤيدو "حل الدولتين" – بل تركّز على ثلاثة حقوق هي كنس الاحتلال وإحقاق حق العودة للاجئين وإلغاء كافة أشكال التمييز العنصري تجاه المواطنين العرب الفلسطينيين داخل إسرائيل.
  • قلق إسرائيلي

ترى المؤسسة والنخب الإسرائيلية الحاكمة في حملة المقاطعة خطرًا استراتيجيًا على إسرائيل، بل يذهب البعض إلى اعتبارها أكثر خطورة ممّا يسمى "التهديد الإيراني". وقد اعتبر معهد "رئوت" خلال "مؤتمر هرتسليا" عام 2010 حملة المقاطعة "تحديًا استراتيجيًا قد يتحوّل إلى تحد وجودي". وفضلا عن تخصيص وزارة خاصة لـ"الدعاية" (استحدِثت عام 2009)، تولي حكومة إسرائيل، من خلال وزارتي الخارجية والثقافة، أهمية ملحوظة للموضوع وترصد له موارد مادية وبشرية متزايدة.
وتبدي النخب الإسرائيلية قلقًا عميقًا وحقيقيًا من أصداء المقاطعة ونبذ إسرائيل الاحتلال والاستيطان والتمييز العنصري في الرأي العام العالمي. وهذا هام. لأنه وإلى جانب القوى التقدمية الإسرائيلية التي تناضل ضد الاحتلال في عقر داره من منطلقات سياسية مبدئية أو أخلاقية (ولا نستهين طبعًا بهذا النضال بل نعتبره أولوية علينا تعزيزها وتعزيز دورنا الفاعل فيها، دون تلافي حقيقة أنّ هذه القوى لا تشكّل، وغالبًا لن تشكّل، "كتلة حرجة" في المجتمع الإسرائيلي)، فمن الأهمية بمكان أن يُجبى ثمن سياسي واقتصادي وثقافي وأكاديمي يدفع النخب الإسرائيلية (وهو ما بدأ يحدث فعلا) نحو التراجع التدريجي عن مركّبات الإجماع الصهيوني الرافض لحقوق شعبنا.

وتجدر هنا الإشارة إلى مبادرة عشرات الشخصيات الإسرائيلية من عسكريين سابقين ورجال أعمال لإطلاق "خطة سلام إسرائيلية" في نيسان 2011، والتي فسّرها أصحابها بأنّها تأتي للرد على الجهود الرسمية والمدنية الفلسطينية على الساحة الدولية، منوّهين إلى أن الاقتصاد يشكّل نصف الناتج القومي الإسرائيلي، ومحذرين من تدهور مكانة إسرائيل في العالم على غرار نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.

وتبذل إسرائيل جهودًا حثيثة، غالبًا ما تبوء بالفشل، لوصم الحملة باللاسامية. لكنها تفشل لأنّ خطاب الحملة كوني ومدني، يستند إلى القانون الدولي، وتنشط فيها شخصيات تقدّمية يهودية مناهضة للصهيونية وداعمة للحقوق الفلسطينية، بمن فيها شخصيات أكاديمية بارزة داخل إسرائيل نفسها.
  • نقاشات وثوابت

لا ينكر أحد أنّ المقاطعة موضوعة مركّبة جدًا في بعض جوانبها بالنسبة لهذا الجزء من الشعب الفلسطيني، الذي بقي في وطنه في نكبة العام 1948 وحمل المواطنة الإسرائيلية لتثبيت بقائه. ولا ينكر أحد أننا عانينا، ولعقود طويلة، ظلمًا تاريخيًا شديد المضاضة، من جرّاء خلط بعض ذوي القربى بين التطبيع مع إسرائيل وبين القطيعة التي فُرضت علينا بذريعة عدم التطبيع. ولا شكّ في أنه لا يمكن تجاهل خاصية موقعنا ومواطنتنا، ولا يمكن التغاضي عن شوائب معيّنة، كالانتقائية أو الاستغلال الحزبي أو الشخصي، أو الانحدار إلى خطاب تخويني تكفيري لا مكان له في ثقافتنا السياسية.

وقد خضنا، ونخوض، وسنخوض، وعلينا أن نخوض، نقاشًا هادئًا وهادفًا وغير معتذر مع كل من تختلط الأمور عليه، أو من يجهلنا ويجهل نصيبنا من المأساة الفلسطينية، أو من لا يفهم أنّ بقاءنا يشكّل إنجازًا استراتيجيًا لشعبنا ولقضيته. والحقيقة هي أنّ لدى القائمين على حملة المقاطعة من الأراضي المحتلة عام 1967، وبدرجة ما من مواقع اللجوء العربي والشتات العالمي، تقديرًا لتجربتنا السياسية وتفهمًا لخاصية ظروفنا، ولما قد يترتب عليهما من تناقضات يجب التعاطي معها بمنتهى المسؤولية والواقعية. فلا أحد يتوقع منا أن نكفّ عن التعلّم في الجامعات الإسرائيلية، أو أن تقاطع سلطاتنا المحلية الوزارات الإسرائيلية، ولا أن نقاطع الانتخابات البرلمانية، ولا أن نعلن العصيان وعدم دفع الضرائب، ولا أن يحْجم أطباؤنا عن حضور مؤتمرات واستكمالات علمية، ولا أن نقاطع منتجات استهلاكية لا بديل لها. لكن هذا لا يعني أننا متفقون على كل شيء. 

فلدينا، على سبيل المثال، نقاش حول اعتبار زيارة فنانين عرب أو دوليين إلى مدننا وقرانا "تطبيعًا"، لمجرّد اضطرارهم لختم جواز سفرهم على يد السلطات الإسرائيلية، حتى إن لم تشترك جهات إسرائيلية حكومية أو حتى تجارية في تنظيم هذه الزيارات أو رعايتها. لدينا نقاش حول إمكانية مشاركتنا في أحداث ثقافية أو فنية دولية تنظم في البلاد (كـ "مهرجان العود") في ظل ضيق الحيّز المتاح أصلا وفي ظل انعدام البدائل أو نوعيتها (ومنها، مؤخرًا، التمويل من أنظمة عربية تطبّع مع إسرائيل سرًا وعلانية). ولدينا نقاش حول مسألة المشاركة في وفود إلى الخارج أو استقبال وفود أجنبية تأتي إلى البلاد في إطار رسمي أو تحت غطاء رسمي، خاصة التي يشارك فيها منتخبو جمهور عن قوى سياسية وطنية بوسعهم طرح القضية السياسية بوضوح، بعيدًا عن تغييب القضية الفلسطينية أو قضايا جماهيرنا.

مثل هذه القضايا بحاجة إلى نقاش جدي ومترو، مع الأخذ بعين الاعتبار ما قد يترتب على مواطنتنا من معضلات وأسئلة مركّبة ومساحات رمادية. لكن هناك قضايا واضحة وضوح الشمس في كبد السماء. هناك أمور نرفضها بحكم ثوابتنا السياسية، بغضّ النظر عن حملة المقاطعة. وهي ثوابت راسخة في تاريخنا الكفاحي وفي هويتنا السياسية، منذ أول انتفاضة شعبية فجّرها الشيوعيون في الناصرة وأم الفحم في أيار 1958، رفضًا لإظهار العرب أمام العالم وكأنهم يحتفلون باستقلال الدولة التي قامت على أنقاض شعبهم. ومن المعروف أنّ القائد الراحل توفيق زيّاد رفض زيارة وزير الخارجية أواخر الثمانينيات، يستحاك شمير، في عز الانتفاضة الأولى، مؤكدًا أنّه "على علمي أنّ الناصرة مدينة في البلاد وليس خارجها". هذه الثوابت، التي وضعها ورسّخها الحزب الشيوعي، أضحت محط إجماع كل القوى الوطنية على ساحة جماهيرنا العربية. لقد رفضنا دور "ورقة التوت" آنذاك ونرفضه اليوم أيضًا.

من جملة هذه الأمور الواضحة، مثلا، المشاركة في نشاطات دعائية، أو "ثقافية" ذات طابع دعائي محض، تقوم عليها وزارة الخارجية الإسرائيلية في دول مختلفة، أوروبية على وجه الخصوص، ضمن جهد واضح لـ"تحسين صورة إسرائيل" في الرأي العام العالمي، خاصة بعد العدوانين الإجراميين على لبنان عام 2006 وعلى غزة عامي 2008 و2009. مثل هذه المشاركات لا تُحلّ ولا تبرَّر بتسطيحات "الرأي والرأي الآخر".. وفي مثل هذه الحالات، يفسِد "الخلاف في الرأي" للودّ قضايا عدّة.
  • الثقافة جبهة ساخنة

في السنوات الأخيرة، انكبّت إسرائيل على النشاطات الثقافية تحديدًا، كجبهة مواجهة مع عزلتها في الرأي العام ومع النقد المتزايد لسياساتها العدوانية والإجرامية، وهو ما يتضح أيضًا من برتوكولات لجلسات لجنة المعارف التابعة للكنيست: ففي جلسة يوم 27.12.2010 قال نائب وزير الخارجية داني أيالون: "لدى إسرائيل مصلحة هامة جدًا هي عرض إسرائيل كدولة طبيعية، كدولة متنوّرة، ديمقراطية (...) الثقافة من جهتنا هي بمثابة وسم لإسرائيل، وتمثيل إسرائيل كدولة، كما أسلفت، طبيعية، كدولة مبدعة، كدولة يمكن التواصل معها ليس فقط على المستوى العقلاني، ليس فقط على مستوى المعرفة التي نملكها، بل أيضًا على المستوى الحسّي". واستطرد أيالون حول موضوع المقاطعة تحديدًا: "حين يفرضون مقاطعة ثقافية على إسرائيل أو حين لا يدعوننا، لهذا السبب أو ذاك، فهذه قضية سياسية بالطبع. إنها قضية سياسية في النهاية. لذا، فنحن معنيون بأن نكون، برأيي، في كل هذه الملاعب، في كل الأمكنة الممكنة، يشمل الأوروفيزيون، في كل مكان يكون فيه عَلم ويكون فيه فنان يظهر باسم إسرائيل، فهذا حضورٌ ما، علينا ألا نخجل من هذا. اعتقد أنّ هذا جزء من فسحتنا، في فترة يحاولون فيها نزع شرعيتنا".

وفي جلسة أخرى لنفس اللجنة عُقدت يوم 1.2.2011 لمناقشة المقاطعة الثقافية تحديدًا، قال الباحث عيران شيشون رئيس طاقم الأمن القومي في معهد "رئوت" آنف الذكر: "..لا شك في أنّ التصدير الثقافي هو طبعًا، إلى جانب التمويل الملائم لهذا الموضوع، هو ضرورة. لأنه في نهاية المطاف لهذه الثقافة صلة لتلك النخبة الليبرالية في الغرب، حيث أساس مشكلتنا الآن".
من الجدير التنويه إلى أنّ 3% فقط من ميزانيات وزارة الثقافة الإسرائيلية ترصَد لمؤسسات ثقافية عربية. فهل من قبيل الصدفة أن تُطمَس وتهمَّش الثقافة العربية داخل إسرائيل، فيما تصبح "منتجًا إسرائيليًا" في أوروبا والعالم؟
  • لا تخوين ولا تواطؤ

على ضوء ما تقدّم، فمن السهل فهم تعيين الشاعر نعيم عرايدي مؤخرًا سفيرًا لإسرائيل في أوسلو. ومن السهل فهم شغف السفارات الإسرائيلية والمنظمات المقرّبة منها في الخارج، على تقديم المغنية ميرا عوض كـ"مندوبة إسرائيل" في نشاطات ثقافية، وبشكل منهجي متصاعد لا يبقي مجالا للشك في أغراض هذا الاستخدام وطابعه السياسي-الدعائي. ومنها عرض في بلغاريا تم تنظيمه بواسطة السفارة الإسرائيلية في صوفيا، واحتفال في نيو دلهي بمناسبة مرور 20 عامًا على العلاقات الإسرائيلية-الهندية نظمته السفارة الإسرائيلية هناك. هذا ناهيك عن تمثيل دولة إسرائيل في مسابقة "الأوروفيزيون" عام 2009، بعد شهور قليلة من عدوان "الرصاص المصبوب" الإجرامي على غزة. وناهيك عن ادعاء مدير أعمالها بأنها ألغت مشاركتها في احتفال بذكرى استقلال دولة إسرائيل في لندن عام 2010 تحت راية "الفدرالية الصهيونية"، بسب "تلقيها وعائلتها تهديدات على حياتها" على حد زعمه.

هل هذه كلّها مجرّد أخطاء أو هفوات؟ الواقع يقول غير ذلك: فقد شاركت عوض قبل بضعة أسابيع في حفل استقبال للرئيس الألماني في ديوان رئيس الدولة. وستشارك في تموز المقبل في احتفال تنظمه السفارة الإسرائيلية في بلجيكا. إذًا نحن أمام نهج. وهذه النشاطات المشبوهة كلها موثقة، ولا يستطيع أحد الادعاء أنّ عوض لا تعرف من يقف وراءها، فقد اعترفت صراحةً (في لقاء على "القناة الثانية" في تموز 2011) بقولها: "لقد بُعثت من قِبل وزارة الخارجية إلى عدة أماكن".

وعلى ضوء ما تقدّم، لا عجب في أن يعتبر مدير عام مسرح "الكاميري" نوعام سيمل (في جلسة لجنة المعارف التابعة للكنيست يوم 27.12.2010) أنّ ظهورات وتصريحات عوض في الخارج "تسوى المليارات، من الناحية الدعائية".

وعلى ضوء ما تقدّم، فقد كانت دعوة عوض للمشاركة في مهرجان "ليالي الناصرة" خطأ فادحًا، لا يمكن تبريره بمجرّد "رفض التخوين". فكلنا نرفض التخوين. وعلينا جميعًا أن نرفض ونلفظ التواطؤ والمتواطئين، فلديهم من المنابر ما يكفيهم ولا يشرّفنا.

No comments:

Post a Comment